د.سهير المصادفة لجريدة العالم : المبدع لا يحتويه نمط كتابة واحد

القاهرة - محسن حسن
سهير المصادفةالدكتورة "سهير المصادفة" واحدة من المصريات العاشقات للأدب والفن والثقافة، تراهاً دائماً في حالة حراك فاعل في الوسط الثقافي المصري والعربي، وجهودها في مجال الترجمة لا تخفى على أحد، كما أنها ممن يشعلن الوسط النقدي بالعديد من النقاشات والتحليلات حول مؤلفاتها الشعرية والروائية، من أعمالها الشعرية "هجوم وديع" و "فتاة تجرب حتفها"، ومن أعمالها الروائية "لهو الأبالسة" و "مس إيجيبت"، وقد ترجمت عن الروسية رواية "توت عنخ آمون" للروسي "باخيش باباييف"، بالإضافة لترجمتها كل حكايات الطفولة عن الشاعر الروسي "بوشكين" وجزء كبير من حكايات كاتب الأطفال الروسي "أفاناسيف". جدير بالذكر أن "المصادفة" حاصلة على دكتوراه الفلسفة من موسكو عام 1984، وهي عضو اتحاد الكتاب بالقاهرة والمشرفة على سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب.. "العالم" التقتها بالقاهرة وأجرت معها هذا الحوار .
* ما الذي أضفته الفلسفة على مكوناتك الأدبية والإبداعية؟
ـ الفلسفة هي أداة رؤيتك للعالم بأكثر من طريقة ممكنة ومتشعبة، ومحاولة رصد موقعك كمخلوق صغير في كون واسع مترامي الأطراف.
* كيف تنظرين إلى موسوعية المبدع العربي وأثرها السلبي في منجزه الأدبي؟
ـ هي ليست موسوعية بقدر ما هي رغبة في القفز بين الأجناس الأدبية، وهي سمة ليست بجديدة فمن يعتقد أن نجيب محفوظ مثلاً لم يفعل ذلك فهو مخطىء، فنجيب محفوظ كتب السيناريو إلى السينما مباشرة وهذا عمل آخر تماماً غير الكتابة الروائية، نجيب محفوظ كتب جنس المقالة، وقد كان كثيراً ما ينشغل بغير الرواية، وقد حاول كتابة الأغنية مثله مثل غارسيا ماركيز، وعموماً النموذج العابر لأكثر من جنس أدبي هو الشائع، بل هو الأصل الغالب والأساس. وأنا أقول إن المبدع الحقيقي هو الذي لا يستطيع جنس أدبي واحد أن يحتويه في لحظة ما. وموضوع القفز بين الأجناس الأدبية ليس مطروحاً في أوروبا، هو مطروح عندنا فقط .
* في رأيك لماذا لم يتكرر نجيب محفوظ عربياً حتى الآن في اتجاه العالمية؟
ـ نجيب محفوظ كان محظوظاً في الكثير من الأمور، فقد كان يكتب رواياته بحالة من الاستغراق الكامل، وكان مشتبكاً مع السينما منذ البدايات، لقد فرّغ نفسه لجنس أدبي واحد هو الرواية .
* لكن ما الأفضل الآن بالنسبة للمبدع الجنس الأدبي الواحد أم الأجناس المتعددة؟
ـ الأديب غير مطالب بالاقتصار أو بالتعدد، ولكنه يبدع وفقاً لظرفه الثقافي والتاريخي والخاص، وبحسب تواجده ومكانه من الساحة الثقافية، وأعود فأؤكد أن سيرة نجيب محفوظ تشي بأصداء اقترابه من الشعر وشروعه فيه.
* في ظل تنوّع الروافد الثقافية كيف تنظرين لعلاقة القارىء العربي بالمنجز الأدبي والأدباء؟
ـ دائماً يخلط البعض بين المبدع والقارىء، في حين أن المبدع لا علاقة له بالقاريء وقت الشروع في الإبداع، وما يعانيه القاريء العربي هو نتاج تعليم سيىء لأكثر من نصف قرن، أما المبدع فيكتب عملاً وفقاً لمعايير فنية وأدبية ونقدية كي يصل عمله للقارىء بعد ذلك على أيدي مؤسسات الدولة وليس المبدع .
* من يسعى إلى من القارىء يسعى للمبدع أم العكس؟
ـ المبدع يكتب للقارىء ولكن لا يسعى إليه بسلعة الكتابة، فهذه ليست وظيفته .
* بدأت مشوار الإبداع بالشعر.. فهل اكتملت أدوات الكتابة الشعرية لديك؟
ـ لقد حصلت على جائزة عن ديوان "فتاة تجرب حتفها" بالشارقة، وخلال كتابات البعض عن رواية "لهو الأبالسة" قيل إن الشعر يكاد يكون عموداً رئيساً في بنائي للروايات، ورغم ذلك فأنا أتردد كثيراً في نشر دواوين الشعر خوفاً من أن أضع في المكتبة العربية ما لا أرضى عنه من الشعر.
* وماذا عن الرواية مقارنة بالشعر؟
ـ أنا أكتب رواية وأنشرها كل خمس سنوات، لكن بصفة عامة إقبالي على نشر الشعر قليل، لأن الشعر " عالٍ سُلّمه " والاجتراء عليه محفوف بالمخاطر، والقصيدة التي أطمح أن أنشرها لم تأت بعد .. أما الرواية فهي ذات عوامل سردية مغلقة على نفسها . وأنا حادة جداً في نقدي لذاتي وغير متسامحة مع نفسي مطلقاً .
* على ذكر الشعر، هل يستعيد الشعر مجده أم يعلن موته قريباً؟
ـ الشعر حاضر، وهناك أصوات شعرية جيدة في العالم العربي
* بين مؤيد ومعارض أحدثت روايتك "لهوالأبالسة" جدلاً كبيراً عند ظهورها.. لم هذا الجدل؟
ـ الضجة المعارضة للرواية حدثت بعد صدور الرواية بخمس سنوات أى في عام 2008، وقد استقبلت الرواية استقبالاً جيداً من القاريء العربي عند ظهورها في 2003، وربما كان هذا الاستقبال الجيد هو ما دعاني للإحجام عن نشر قصائدي الشعرية، فقد تمت الإشارة إلى بقوة على أنني "الروائية" .. على الرغم من أن "هجوم وديع" تم استقباله بشكل طيب، و "فتاة تجرب حتفها" بشكل حافل بما فيه جائزة واحتفاليات وسفريات إلى آخره، ولكن "لهو الأبالسة" تحديداً منحتني مالم أشهده ولا أتوقعه من قبل على كل المستويات النقاشية والجدلية والنقدية خاصة في العالم العربية بأكمله، ومع تصاعد تيارات معينة في 2009 حدثت ضجة اعتبرت الرواية تقوم بالترويج للرذيلة، لكن حتى هذه اللحظة التي نتحدث فيها تحظى الرواية بجرعة كبيرة من التحليل والنقاش والنقد الموضوعي .
* كيف تحللين المعركة الدائرة الآن في مصرحول حرية الإبداع في ظل غياب حوار مجد وفاعل من الطرف الأكبر وهو المجتمع؟
ـ دائماً هذا المجتمع مظلوم، وهو دائماً يتوق للحرية والجمال، وأنا أعول عليه كثيراً في التغيير والمواجهة، وقد يبدو غريباً أن ما لا يتقبله البعض الآن باسم الدين، كان مقبولاً في ظل عصور القوة الإسلامية، فقد تقبل المجتمع قديماً كتب " ابن حزم " مثل طوق الحمامة، و"ألف ليلة وليلة" و "الأغاني" للأصفهاني وأعمال كثيرة قد يسقط أحدهم مغشياً عليه الآن إذا سمع اسماً من أسمائها، كل هذا قبله المجتمع الإسلامي واحتواه في ذروة قوته وحضارته، ورغم أننا لا يمكن أن نكتب كما كتب ابن حزم أو كما ورد في ألف ليلة وليلة، إلا أنهم يهاجموننا الآن كمبدعين.
* ما المفتقد الآن إذن؟
ـ المفتقد الآن هو سعة الأفق، وأن تكون هناك معايير؛ بمعنى أنه من المقبول جداً بل من الجميل الرائع أنني حينما أكتب كتاباً تعترض عليه أن ترد علىّ بكتاب مثله لتفند رأيي أو بمقالة صحفية جادة وصريحة، لماذا لا نأخذ بهذا المعيار؟، يجب أن تعامل الكتابة بالكتابة، والإبداع بالإبداع، والرأى بالرأى، أما أن يعامل الكتاب بالبندقية فهذا مالا يقبله أحد .
* لكن ألا ترين أن الحوار بين جميع الأطراف مفتقد حتى الآن؟
ـ الحوار مفتقد لأنه لا توجد معايير، ولأن ما يتم الآن بين جميع الأطراف هو الهجوم العدائي المتبادل وهذا خطأ كبير ..
* هل لك أن تحددي لنا المقصود بمصطلح "حرية الإبداع"؟
ـ حرية الإبداع أن أكون ملتزمة بتقديم رؤيتي إزاء الحياة دون تابوهات أو عوائق يصنعها بشر، وعلى المتلقي أن يدرك الهدف والغاية قبل أن يجتزيء نصاً أو عبارة يحاكمني بمقتضاها، وفي العصور الوسطى حاكموا "جوستاف فلوبير" بسبب وصف الزوجة الخائنة في روايته "مدام بوفاري" لذة الرذيلة، وفي مرافعة محامي فلوبير لدى المحكمة قال "إنه ما كان لأحد أن يعرف ما هي الرذيلة إلا بوصف فلوبير لاستمتاع هذه الزوجة بالرذيلة". وهذه هي رسالة المبدع التي يجب أن نعيها قبل أن نصادرها .
* وماذا عن النخبة في هذا الإطار؟
ـ على أي حال الشعوب تجاوزت النخب سياسياً واجتماعياً ومعرفياً، ولكن النخبة إذا كانت أمينة فإنها سوف تأخذ بيد الفرد إلى تفهم الغايات مما يكتب ويعرض من إبداع، وسوف يكون على عاتقها الانطلاق بالمجتمع ككل إلى الأمام والفرد والمجتمع كلاهما في النهاية يتعلم من الآخر. أما إذا كانت النخبة مسيسة أو ذات أيديولوجية معينة تدعو إليها فإن الأمر سيصبح مختلفاً.
* وما الذي تريده النخبة الأمينة، حرية مطلقة أم مقيدة؟
ـ المبدعون لا يمكن أن يحققوا ذواتهم في الإبداع إلا إذا كانت حرياتهم مطلقة وغير مقيدة، فلا إبداع مع تقييد، وهنا يجب أن نؤكد على ضمير المبدع الذي يمثل الرقيب الذاتي على ما يكتب.
* وماذا إذا افتقدنا الآلية التي تحفظ أمانة الكاتب في مرعاة ضميره ورقيبه الذاتي؟
ـ يكتب هذا ويعلن، أن الكاتب الفلاني لم يستطع أن يحافظ على موضوعيته وعلى أمانته في الكتابة الإبداعية وعلى رقيبه الذاتي فيما يقوم بإنجازه من أعمال، يكتب هذا، ولكن لا يهاجم الشخص بعنف، ولا يضرب بالرصاص، ولا يسجن من أجل رأى قال به أو كتبه.
* البعض يرى أن حرية المبدع تعطيه حق توجيه النقد للأديان، ما ردك؟
ـ جاءت الأديان لانتشال الإنسان من المرحلة الحيوانية إلى المرحلة الإنسانية، ومن ثم فلابد أن يكون الإبداع موافقاً لهذه الغاية، ولن تجد إبداعاً في مجمله ــ وليس في جزء منه ـ يقول بازدراء الأديان، وغالباً ما يسعى المبدع لأن يكون جندياً لإيصال رسالة الأديان وغايتها، لذا فكل من لديه تعارض مع هذا فما كتبه ليس إبداعاً، لأننا إنما نستخدم في الإبداع مفردات مختلفة وبأساليب مختلفة للوصول إلى نفس غاية الأديان، وأنا أرى أن دستوفيسكي يؤثربـ "الاخوة كرامازوف" في الآلاف أكثر مما يؤثر آلاف الدعاة الدينيين.
* أعود بك إلى نجيب محفوظ مرة أخرى، لماذا لم يتكرر نجيب محفوظ حتى الآن؟
ـ ليس من المفترض أن يتكرر نجيب محفوظ، لأن تكراره كارثة تعني شيوع التقليد وعدم استقلالية المبدعين في استحداث آليات روائية وأسلوبية جديدة، أما إذا كنت تقصد الجوائز العالمية وخاصة جائزة "نوبل" فإن القائمين عليها ربما لا يحالفهم التوفيق في اختيار المعايير المناسبة لمنح الجائزة، وهي جائزة لا تخلو من تقصير نحو العرب، بل ربما تم تسييس الجائزة برمتها فهذا ليس بمستبعد.
* إذن كيف ترين وجهة النظر العالمية في الإبداع العربي؟
ـ هم لا يزالون ينظرون إلى الإبداع العربي وخاصة الرواية كمكمل للصورة الماثلة في أذهانهم عن الشرق العربي، وللأسف الشديد هناك من المترجمين العرب من يختارون ترجمة أعمال تكرس هذا المنظور الغربي نحونا، ولا تزال نظرة الغرب للثقافة العربية قائمة على أنها مجرد فولكلور وليس أدباً.
* ما سبب هذه النظرة في اعتقادك؟
ـ في الأساس يجب أن ينظر الغرب للثقافة وللأدب العربي على أنهما إضافة للمنجز الثقافي والأدبي العالمي وليس مجرد صورة للمشاهدة عبر مجتمعات يتم التلصص عليها يوماً بعد يوم، هذا الدور لا يقوم به الغرب ربما لصعوبة اللغة العربية، ربما لأن الأعمال العربية التي تسامي الأخرى الغربية إبداعاً وقوة، صعبة الترجمة، وأنا مترجمة وأعرف ذلك؛ فمن الصعب مثلاً ترجمة رواية بها أكثر من بعد سواء على مستوى استخدام اللغة أو على مستوى أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل في البناء الدرامي للرواية ن فاللغة العربية صعبة جداً، هذا طبعاً بعكس ترجمة أشياء سهلة مثلة حكاية بسيطة أو قصة عن انتهاكات الجسد وما أشبه.
* هذا يجعلني أسألك عن الترجمة، هل نحن جادين فيها أم مجرد منتفعين؟
ـ لسنا جادين في الترجمة، وقد قلت أكثر من مرة إننا نعاني من كارثة في الترجمة، فإسرائيل وهي في المنطقة تترجم بلغتها العبرية الميتة من وإلى العربية كل عام أكثر من العالم العربي مجتمعاً مرة ونصف، ونحن للأسف لا تتم أى سياسات لتطوير الترجمة في العالم العربي، ونحن في واد والترجمة في العالم كله في واد آخر.
* هل لديك مشورع جديد للترجمة؟
ـ نعم، فقد تأثرت كثيراً بالشاعرة الروسية "آنا أخماتوفا" والتي أعتبرها تالية في المكانة الشعرية بعد "بوشكين"، لذا فقد أنجزت 80% تقريباً من هذا المشروع وأتمنى أن أنتهي قريباً من الباقية الباقية.
* لدينا تراجع نقدي ـ وزخم روائي ـ وقصور نحو العالمية، كيف نستطيع تطوير حركة نقدية دافعة في ظل هذا؟
ـ الترجمة فقط هي التي يمكنها دفعنا نحو الأمام، أما النقد فعليه دور ربما يمت للشرف والنزاهة أكثر من العلاقة بالمبدع، فالناقد عليه أمانة تصدير المشهد الثقافي الحقيقي للقاريء العربي؛ ماذا يقرأ وكيف يقرأ بالإضافة لفتح مغاليق النصوص، والأخذ بأيدي الشعوب لفتح نوافذ معرفية وجمالية أخرى عبر العصور، فإذا لم يقم بهذا على أكمل وجه فسوف يتم تدمير العملية الجمالية برمتها.
* وهل مثل هذا الناقد موجود في عالمنا العربي حالياً؟
ـ النقاد موجودون ويؤدون دوراً كبيراً رغم معوقات النظم السياسية التي تعرقل كل شيء في ظل الاستبداد السياسي والإقصاء المتعمد لعقود مضت، وإذا كان التاريخ كفيلاً بإعطاء المبدع حقه مع مرور الوقت ــ مثل بتهوفن الذي مات معدماً وهو مخلد في التاريخ ولدى كل الأوساط الآن ــ فإن الناقد يختلف لأن نزاهته وموضوعيته هما الكفيلان فقط بحضوره الفاعل أو بغيابه الحتمي وللعلم فالإبداع عملية فردية بخلاف النقد الذي هو عملية تعلمية، لذا فنحن نحتاج لجهد أكبر وأكثر من نقادنا في العالم العربي.
* مجالات الإبداع اصبحت قريبة من أيدي المرأة في العالم العربي؟
ـ هناك مبدعات لا شك، ولكن المرأة لا تزال محاصرة بقوة في العالم العربي، وهي أكثر حصاراً في مصر حيث تعد مصر أدنى دولة عربية في منح الحقوق للمرأة وفقاً للإحصائيات . فمصر تمتهن المرأة، وأنا أعتبر الكلام عن ثراء المرأة الإبداعي هو من قبيل الرفاهية والتندر . ولكن لابد من الاعتراف بأن المبدعات العربيات والمصريات على وجه الخصوص هن مقاتلات بحق من أجل الحرية ونوال الحقوق المفتقدة.
* في الختام، ما مقدار علاقاتك بالأدباء العراقيين؟
ـ أصدقائي العراقيين كثر، وقد كنت أسعد حظاً عندما زرت العراق في مهرجان المربد عام 1989 في أوج احتفالات وملتقيات المربد العراقية الجميلة، وكان هذا أثناء دراستي الجامعية وأنا لا زلت صغيرة، وهي من الزيارات التي لا أنساها أبداً لأني شعرت بمدى حضارة وثقافة العراقيين وبمدى حبهم للقراءة، فهم شعب قارىء مدهش على الدوام، وأتمنى لهم الاستقرار والأمن والأمان.
                                 منقول من جريدة العالم / صحيفة عراقية تصدر في بغداد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق